عندما تهب الشعوب وتنتظم في مسيراتٍ واحتجاجاتٍ ومطالباتٍ توجهها إلى السلطة الحاكمة، وتكسر حاجز الخوف دون اكتراثٍ بأية تهديداتٍ ظاهرة أو مبطنة، فإن أسباب مثل هذه الهبات ليست بنت اللحظة، وإنما هي محصلة لتراكماتٍ من تذمرٍ وشكوى وإحباط وشعور بالظلم وتجاهلٍ من المسؤول، تجمعت على مدى السنين، وكانت بانتظار الشرارة للانفجار. فصمت الشعوب على تجاهلها وتغييبها ليس كما يحلو للسلطة أن تعتقد بأنه قبول بالواقع الذي طالت معاناتها منه، وإنما هو نتيجة التخويف بالوسائل المختلفة التي تتبعها تلك السلطة. ويعلمنا التاريخ أن الشعوب عندما تنفجر فإن أساليب التخويف جميعها لا تجدي معها، وأن التسويف والمماطلة ما عادت تنطلي عليها، وبالتالي تقتضي الحكمة من السلطة أن تستجيب لمطالب الشعب حقيقةً لا قولاً، قبل أن يحدث ما لا تُحمد عقباه
وفي الأردن فقد مضى على هبة الشعب أكثر من عام، ورفعت مسيراته شعاراتها ومطالبها تفصيلاً، فحددت ما تشكو منه من وضعٍ اقتصادي سيئ، وما كان ينقصها من إصلاحاتٍ سياسيةٍ ودستورية، وبينت بالتفصيل أوجه الفساد التي شكلت سوساً ينخر في بنيان الدولة ومؤسساتها، وانتظرت استجابات شافية وخارطة طريق واضحة وناضجة للإصلاح المطلوب. ويبدو أن السلطة الفعلية، ولا أقول الدستورية، اكتشفت أن الاستجابة لمطالب الناس على النحو الذي يريدون، سوف يؤدي إلى الانتقاص من تلك السلطة الفعلية ومكاسبها وامتيازاتها، فاعتقدت أنه يمكن ترويض الناس وإسكاتهم بالوعود، وسلق بعض النصوص في ا لدستور، واختيار عيناتٍ موصوفة بالفساد مما يطالب به الناس. ومثل هذا الاعتقاد هو استمرار لنهج حكم الناس عليه بالإدانة وثاروا عليه، وينطوي على تجاهلٍ لمخاطره التي لا تخفى على كل ذي عين أو بصيرة، لأن فيه تجاهل كامل لوعي الشعب، وعمق إحساسه بالموجود من تجاوزات. وعندما نقول السلطة الفعلية وليست السلطة الدستورية، فإن سبب ذلك هو الانفصال الكامل بين السلطة التي تستحوذ على القرار فعلاً وبين السلطة الدستورية التي تم تغييبها منذ أمدٍ بعيد. ويبدو أيضاً أن استخدام السلطة الفعلية للأشكال الدستورية التي صنعتها، بما فيها حكوماتٍ ومجالس تشريعٍ، وقدرتها على توجيهها بالتوقيع على ما يُؤخذ لها من قرارات، لا يزال استمراراً لما جرت عليه تلك السلطة لعقود مضت وحتى الآن، اعتقاداً بأن مخرجات الأشكال الدستورية التي تُؤمر فتطيع، كفيلة بالإيحاء للناس أن هناك استجابة لمطالبهم
وأتساءل: هل لاحظت السلطة الفعلية أن مسيرات الناس ومطالباتهم ظلت شعارات بعيدة عن المساس بالخطوط الحمراء إلى حين استشعارها لعدم الجدية في الإصلاح. فبالنسبة إلى التعديلات الدستورية، أصبح الشعور أن هذه التعديلات التي صاحبتها زفةً إعلامية وأعراسٌ إذاعية وتلفزيونية، لم تستجب لما يفرضه مبدأ الشعب مصدر السلطة، وتنكرت لحقيقة ما يطالب به الناس، واستتبع هذا أن ارتفعت الاحتجاجات وأخذت تتلمس الخطوط الحمراء، حتى اخترقتها جميعاً
أما بالنسبة لمكافحة الفساد وعقاب الفاسدين، فإن التعامل بانتقائية والتوجيهات الأمنية في هذا الموضوع، ولّد شعوراً عاماً عند الناس أن هناك قوائم بأسماءٍ يُرمى بأصحابها تباعاً لمحاسبتها باعتبارها أكباش فداءٍ أغلب أصحابها لا بواكي لهم، في حين أن الأسماء التي تشكل همزة الوصل بين الفساد والمستفيد منه ظلت عصيّةً على الحساب، وإن حدث اقتراب منها، فإن حمايتها تصبح فرض عين. ويلاحظ المتابع أنه بدلاً من وضع جردةِ حسابٍ تفصيلية لكل موضوعات الفساد، فإن ممارسات السلطة الفعلية بهذا الشأن يبعث على الاعتقاد بأن ذلك أمر غير وارد، ولا تفسير لذلك سوى أنه سوف يكشف المستور
والأكثر خطورةً أن النصاح وأصحاب التقارير، لا زالوا يستهينون بأمر الاحتجاجات والمسيرات، ويؤكدون على قلة أعدادها وأنها مع الوقت ممكنة الاحتواء، رغم أن ذلك يدفع السلطة الفعلية إلى المصير المجهول. فهل خطر ببال هؤلاء النصاح وكتاب التقارير، أن يعرفوا حقيقة ما تنطق به ألسنة الناس في المدن والقرى والبوادي والأرياف، وأن محل أحاديثهم وتفصيلاتها أصبحت تتعلق بالخطوط الحمراء، وأن عدم التحاقهم بالمسيرات لا يعني ثقتهم بتوجهات السلطة!! إنني أعتقد أن جُلّ هؤلاء النصاح وكتاب التقارير هم مضللون، وأنهم يقولون ما يعتقدون أنه يدغدغ رغبة السلطة الفعلية ليعجبها ما يقولون، ولذلك فهم سادرون في غيّهم ويواصلون بكتاباتهم الإغواء والتغرير، لا يهمهم ما يترتب على ذلك من جنوحٍ للسفينة، ثقةً منهم بأنه من السهل عليهم القفز منها والنجاة كالفئران عند استشعار الخطر
وفي الفترة الأخيرة ظهرت إلى العيان أصواتٌ سياسية من شخصيات نحترم الكثير منها، إلا أن ما تطرحه يذبح الدستور ويجر الوطن إلى الهاوية المحتومة. فعندما تنادي هذه الشخصيات بالتخلص الآن من مجلس النواب والحكومة معاً، فإن ذلك لا يُبقي وسيلةً لإجراء الانتخابات إلا على أساس قانون الصوت الواحد البغيض، لأنه يستحيل إصدار قانون مؤقت للانتخاب بحجة غيبة البرلمان، إذ أن المادة (94) من الدستور تشترط لإصدار القانون المؤقت وجود كوارث عامة أو حالة الحرب والطوارئ، وهذا أمرٌ غير موجود، سواء بالمنطق الواقعي أو المنطق الدستوري. والأكثر غرابةً هو الحديث عن اللجوء إلى إعلان الطوارئ من أجل إصدار قانون مؤقت للانتخاب. ووجه الغرابة أن المادتين (124 و 125) من الدستور اللتان تتحدثان عن استخدام قانون الدفاع وإعلان حالة الطوارئ التي تقود أيضاً إلى إعلان الأحكام العرفية، لا شأن لهما بالحالة التي يمر بها الأردن في الوقت الحاضر. والسبب أن هاتين المادتين لا تُستخدمان إلا في حالة الدفاع عن الوطن، فكيف يخطر ببال بعض أصحاب الأصوات الجديدة أن الخطر على الوطن هو شعبه الذي يقوم بمسيراتٍ تطالب بالإصلاح. إن المادة (124) من الدستور تؤكد أنه
إذا حدث ما يستدعي الدفاع عن الوطن في حالة وقوع طوارئ فيصدر قانون باسم قانون الدفاع تعطى بموجبه الصلاحية إلى الشخص الذي يعيّنه القانون لاتخاذ التدابير والإجراءات القانونية بما في ذلك صلاحية وقف قوانين الدولة العادية لتأمين الدفاع عن الوطن
إنه لمن المضحك المبكي أن يصل الحال إلى مرحلة من هذا التفكير، ليتساءل القانوني وغير القانوني، عن الكيفية التي يشكل فيها الشعب خطراً على وطنه. أقول لهؤلاء إن الخطر على الوطن الذي تُعلَن من أجله حالة الطوارئ هو خطر الأعداء، وفي هذه الحالة فإن الشعب كله يصبح مستنفراً للدفاع عن وطنه، ويقبل بالتنازل عن حقوقه وحرياته التي تكفلها له القوانين العادية
لا يا أيها الناصحون، يكفي ما فات. فإذا كان صحيحاً ما تنقله الأخبار عنكم، فإن شعب الوطن هو خصمكم، فلا تستثيروه أكثر. هل تعلمون أن محصلة المطروح، إن كان صحيحاً، هو تعطيل الحريات، ومصادرة الحقوق، وإصدار قرارات يحرم على القضاء النظر فيها، وحبس الناس تبعاً لمدى عدم مطواعيتهم، ومنع التجول، واستخدام السلاح ضد من لا يطيع!! ثم إنكم أمام شعب كسر حاجز الخوف كما تشاهدون، وخرج إلى الشارع بمسيرات تتعاظم كل يوم، لفقدانه الثقة بسلطة لم يعد يهاب قراراتها ولا يخشاها، ألا يعني ما تقولون استدراج سلاح الشرطة والدرك والجيش ليصبح الدم وسيلة التخويف والإسكات؟ ثم من سيضغط على الزناد ويقتل أخيه أو ابن عمه أو قريبه؟ وقبل هذا، فهل تغرون ملكاً هاشمياً باستخدام النار ضد شعبه، ويخرج على ما جرت عليه أسرته على مدى العقود
وأخيراً أقول، يا أيها النصاح وكتاب التقارير وأصحاب المقامات، لا تستثمروا غضب الناس على الحكومة والبرلمان معاً لتنصحوا بالتخلص الفوري من الجهتين، فمجلس النواب مهما كان الطعن بتزويره، إلا أنه في النهاية هو الشكل الدستوري الذي سوف يمر قانون الانتخاب من خلاله، وهو الذي عليه أن يفصل هذا العام بأمر (75) قانوناً مؤقتاً، وإلا سوف تصبح باطلة بنص الدستور، وبهذا البطلان سوف يختل النظام القانوني للدولة، وأرجو أن لا يتم تجحيش المادة (94) من الدستور بتفسير على المقاس، وبدء الشطار في انتهاك نصوص الدستور التي وضعوها بأيديهم ولم يجف حبرها بعد. يكفي هذا التوهان للسلطة بفضلكم، وآن الأوان لأن يسود صوت العقل، والتعامل بحكمة مع متطلبات المرحلة، فالمزيد من الصبر لبضعة أشهر حتى ينجز مجلس النواب ما عليه إنجازه، ويصدر قانون الانتخاب المطلوب، وتجري الانتخابات على أساسه، ليكون لدينا مجلس النواب الخالي من الشبهات في تكوينه، ويتعامل مع المرحلة القادمة بإصلاحات دستورية سليمة، ويوجه الحكومة الجديدة للتعامل مع قضايا الفساد بما تستوجبه العدالة الحقة، وإصلاح الوضع الاقتصادي وفقاً للأصول العلمية لا كما يناسب الشعوذة والارتجال. وقبل هذا وذاك لا بد من إخراج المعتقلين والتوقف عن حبس أصحاب الرأي، واستيعاب الأصوات التي ظلت مكبوتة لعقود من الزمن. وعلى كل عاقل أن يعيد السلطة التائهة إلى الطريق السليم